كانت خالتي زكية ، متزوجة من عتّال ، طويل القامة ونحيف البنية جداً بحيث كنت بالكاد المحه حينما أمر به ، وهو كذلك لم يلحظ وجودي ، لم ينتبه مرة لمروري الى جانبه ، فهو دائم التعب والشرود من كثرة حمل أكياس السكر والتمن والحنطة والشعير ، يضع الكيس على كتفه غير المرئي ويهرول سريعاً ، فلا أرى سوى كيساً طائراً يخفق أمام ناظري .
كانت خالتي زكية تجهز طعام غدائه وتصيح .
- خالتو .. خالتو ، خذ الطعام لخالك ؟
ثم تنزل دمعتان من مقلتيها الكحيلتين .
كانت خالتي جميلة وبها خفة ومرح ، تحب زوجها العتال كثيراً ، وحينما يأتي للمنزل بعد يوم عمل طويل ، تأخذه للحمام وتحممه وتلبسه بيجامة نظيفة وتضع على رأسه ( طرطور ) مزركش وبأعلاه كركوشة وجرس نحاسي صغير .
- هزي رويسك يحليوه ؟
يهز زوجها رأسه ، فتهتز ( كركوشة ) الطرطور ويجلجل الجرس .
تحمله زكية بين ذراعيها رغم طول سيقانه وذراعيه وتضعه على السجادة .
يهز رأسه ، تهتز الكركوشة ويجلجل الجرس ، فتسمع زكية الجرس وتأتيه بالماء والشاي والأكل .
وعندما ينهكه العمل ولا يعود قادراً على هز رأسه يتلاشى من المنزل .
تقوم زكية بوضع كفها على أذنها وتنصت لأنفاسه .
- وينك يا حليوه ؟
تدخل بحذر الى الغرفة خوف أن تدعسه وتحطم عظامه ، تمشي بحذر وتنصت ، وحينما لا تعثر عليه تذهب للباحة والحديقة والسطح . ثم تغمغم .
- العمى .. وين راح ؟
في الصباح حينما يذهب عنه التعب ، يظهر أمام المرآة يمشط شعره ويبتسم لزكية .
تضربه زكية على كتفه بحب - وحشتني يا حليوة ؟
أخذت طعام زوج خالتي وذهبت للسوق .
رأيت شاحنة ضخمة تقف بباب ( الخان ) حيث يعمل .
مر كيس سكر طائر من جانبي ، فعلمت انه الحليوة .
قلت - خالي ، هذا طعامك ؟
سمعت صوتاً - ضعه بالداخل ؟
فرشت المائدة ووضعت التمن والمرق والشوربة بأطباق ، لكنني لم أجد الملعقة ، لا بد أن خالتي نسيتها .
قلت - سأذهب لآتي لك بالملعقة .
سمعت تنهيدة منهكة - إذهب سريعاً ، يجب أن آكل ؟
رجعت للبيت أتمشى على مهل ، وجدت خالتي بالمطبخ .. ابتسمت لي وقالت .
- أكل خالك ؟
قلت - لا .. نسيتي الملعقة ؟
إصفر وجهها ثم زعقت - راح الحليوة !
ركضت ناحية السوق وعباءتها ترفرف خلفها .