احصائيات

عدد إدراجاتك: 9

عدد المشاهدات: 1,622

عدد التعليقات المنشورة: 0

عدد التعليقات غير المنشورة: 0

دفتري.كوم
تصفح صور دفتري تصفح اقتباسات دفتري تسجيل / دخول






Articles

حكاية لا تنتهي

كنت ومازلت مغرم بشخصيات نجيب محفوظ ، عشت معها وتمثلتها وتقمصت بعضها ، أحببت حاراته وعواماته ومقاهيه ، أحببت قاهرته ومقهى ريش ، أحببت أغلفة رواياته ورائحة ورقها ، فتحت عيناي على صور حكاياته وجذبتني عناوينها ، قصر الشوق ، بين القصرين ، السّمان والخريف ، أردت أن أكون واحداً من ابطاله وتخيلت نفسي بالقاهرة ، أبحث عن فتاة تنتظر عند النافذة في بيت يطل على مقهى ، ماذا كان اسمها ؟ 
( حميدة ) !
أتذكر أن الولد الذي هو أنا ، كان يأتي كل يوم في الموعد نفسه ويجلس غير بعيدا عن نافذتها .
أحببت هذا الدور ، مثلته كثيراً وطويلا ومازلت أحلم ان يتحقق ذات يوم .
يقولون ان كل الأحلام تتحقق أذا اردناها أن تتحقق ، حملت معي حلمي الصغير الى رفحاء ، حملت معي الولد العاشق الى الخيام ، لم يكن في ذلك المكان مقهى ، لم يكن في ذلك المكان عشق ، أو هكذا تصورت في البداية .
كانت خلية الافغان غير بعيدة عن السوق ، كانوا يزرعون خلف بيوتهم البقدونس والرشاد وزهور عباد الشمس ، كانت خليتهم خضراء يتوسطها جامع كبير ، لم يكن غريب غيري يدخل الى تلك المنطقة المحرمة ، ولم اكن أجروء على دخولها دون مرافقة صديقي القديم ( جمشير ) .
التقيت ( جمشير ) بعد فراق طويل ، لم يتغير كثيرا ، لم يختف بريق عينيه الجميلتين ولا الحب الهائل فيهما ، أخذني بأحضانه وقبلني بوجنتي ، شممت من ثيابه رائحة طبيخ ، رز بخاري وتوابل سمرقند وطيب امرأة .
قال - يا أخي ، يا أخي الحبيب ، تعال الى بيتي ، أخيراً أصبح لدي سقف وامرأة الهث بحضنها متى ما أريد ، تزوجت من امرأة جبلية قوية تعادل عشرة رجال .. تعال معي ؟
غمز لي بعينه وأكمل - لديها أخت رائعة الجمال ، لم ير وجهها رجل سوى أبيها ، لم يلامس جسدها شيء سوى الماء ، تقول الشعر ، تتنفس الشعر ، وكما تعرف ان النساء الأفغانيات مشهورات بالغزل ، مثل نساءكم الجنوبيات . ثم نظر لي وابتسم .
قلت - أمي تقول الشعر أيضاً ، تقول الدارمي والأبوذية ، قضت حياتها تغزل الصوف وتقول الدارمي .
قال - ربما لايجدر بي أن أقول هذا ، لكن انت مثل أخي ، الفتاة كانت تعشق أحداً ما .
- لا أحد يقول الشعر أن لم يكن عاشقاً .
- كانت تعشق ولداً نجفياً ، أقصد تحبه من بعيد ، بالنظرات فقط ، وتتغزل به بالشعر فقط .
قلت - ما اسمها ؟
قال - ( حميدة ) ، وخير الاسماء ما حمّد وعبّد . 
تذكرت حكاية ( محفوظ ) عن حميدة وكيف أحبت الولد الذي ينتظر في المقهى . 
دخلنا خلية الافغان ، كان الوقت مساءاً ، كان هناك بعض الصبية يلعبون ، نظروا اليّ باستغراب ثم عاودوا لعبهم ، شممت رائحة خبز وشواء تنبعث من أحد البيوت .
قال جمشير وهو يفرك يديه - ياللرائحة اللذيذة ، أمينة وحميدة تشويان السمك .
تنحنح جمشير قبل أن يدخل وقال - يا امرأة لدينا صديق قديم وعزيز .
سمعت حفيف ثياب تجري في المنزل ، تختبيء في الغرفة .
- تعال ، تعال ؟ 
كان المنزل واحة خضراء ، عبارة عن حديقة صغيرة تحوي على عدد كبير من الزهور ، جوري وسوسن وبابونج وشبوي وبنت الليل والقلب الدامي ، وهناك أعشاب كثيرة أيضاً لم أرها من قبل .
قال - انها واحة في هذه الصحراء اللعينة ، أحتاجها ، أحتاج هذه الأعشاب لأصنع منها أدوية ، ثم خفض صوته ، ومنها ايضاً أصنع الأفيون .
- أفيون ؟
- نعم .. نحن لانستغني عنه ، جميعنا نعاني من آلام ، بدنية وروحية وخير علاج لها هو الأفيون أو الحشيش ، انتم تختلفون عنا ، تعالجون أوجاعكم ب ( العرق ) .
خرجت امرأة منقبة ، لا يظهر منها شيء سوى عينيها الجميلتين .
قالت - بخير با ؟ 
بخير با .
حزرت انها زوجته أمينة ، فرشت لنا بساطاً وسط الحديقة بين الزهور ، بين البابونج والخشخاش ، تناول جمشير عشبة خشخاش وأخذ يلوكها ويحدثني عن جبال افغانستان التي لم يرها وعن الماء والأنهار والقرى الناعسة وعن مدينة النجف والقبور والسراديب والمكتبات المتوارثة عن أجدادنا الشيعة ، كنت أنصت له وانا الوك العشبة الفريدة وأنتظر متى تطل حميدة أو أسمعها وهي تقول الشعر .
شعرت بخدر يتسلل الى فكي ودوخة لذيذة .
قلت - اسمعني شيئاً من شعركم ؟
قال - حميدة ، يا حميدة ، قولي لنا شعراً .
أتى من خلفي صوت رقيق كبكاء غزال .
( أنت وأنا .. وهذه الليلة المسروقة من الكون .. أنت وأنا .. والحديقة المورقة تتنفس .. اشربني .. رشفة رشفة .. مثل كأس نبيذ .. استنشقني عميقاً عميقاً عميقاً .. في هذه الليلة المسروقة من الكون .. شاركني الحب والقبلات .. فأنا كريمة مع نفسي هذه الليلة ) .
كنت أشعر بانفاس الفتاة تلفح عنقي ، كنت أشعرها خلفي ، أشم رائحتها ، رائحة أنفاس الزعفران وعطر جبال افغانستان .
لم أر وجه الفتاة ، لم أر وجه حميدة .
كواحد من شخصيات نجيب محفوظ ، أخذت أبحث عن أعذار لكي أدخل الى خلية الأفغان ، أبحث عن جمشير عسى أن التقيه في السوق ليأخذني الى بيته ثانية ، الى حديقته ، أجلس هناك ، أمضغ زهرة الخشخاش وأنصت لصوت الغزال ، فأنا أريد ان أكون كريما مع نفسي هذه الليلة أيضا وكل ليلة .
لكنني لم أصادفه ثانية ، سمعت انه استوطن واحدة من بلاد الله البعيدة ، أما أنا فعدت الى بطون كتب محفوظ أبحث عن قصة حب أخرى ، عسى أن تتحقق ، فهو يقول ( أن كل الأحلام لابد أن تتحقق ) !

اضافة تعليق


مسجل في دفتري
نص التعليق
زائر
نص التعليق