احصائيات

عدد إدراجاتك: 9

عدد المشاهدات: 1,622

عدد التعليقات المنشورة: 0

عدد التعليقات غير المنشورة: 0

دفتري.كوم
تصفح صور دفتري تصفح اقتباسات دفتري تسجيل / دخول






Articles

حذاء مستر بوكا

سنوات الأسر والمعتقلات بطيئة وطويلة جداً ومتشابهة ، الوقت هناك لايشبه الأوقات العادية ، الوقت هناك يشبه مذكرات ( معين ) التي كتبها وهو في كامل شعوره بالظلم والقهر والضيم ، فجاءت متشابهة ومكرورة ومستنسخة ، كأنها يوم طويل واحد ، تخللته حروب وأقفاص أسر وجراحات لاتندمل قادته الى الاختباء بالحمام واشعال النار بجسده ليموت حرقا ، مخلفا وراءه قبرا في الصحراء ورماد أوراق ومذكرات تشبه ما أكتبه الان ، وكأنني أستعير ذاكرته ، أستعير أوراقه ويومياته وحزنه وطيبته وشجاعته .
الوقت هناك يشبه الذباب حينما يهجم على المعسكر ، ويغطي الرمل والخيام والطعام وجسدي ووجهي ويحاول الدخول في اية فتحة تصادفه ، في المنخرين ، في الفم أو العينين ، ذباب بأعداد هائلة يطن طيلة الوقت ويزاحمني على الهواء .
الوقت هناك يشبهني حينما وقفت مدهوشا فاغر الفم أمام الرجل الأشقر الذي أهتدى لمكاننا في الصحراء وجاء مع مترجمه ليسمع لنا وليساعدنا في التخلص من ورطتنا .
جاء مستر ( بوكا ) الجنتلمان البريطاني الذي لايفرط بأناقته الكاملة رغم الحر اللاهب والتراب ، فهو يأتي دائما بربطة عنق حريرية وبذلة كاملة وحذاء لامع يخطف الأبصار .
اتجه ناحية خيمة الاجتماعات ، حيث كان الجميع ينتظر ، وصل الخيمة وقد أدهشته أعداد النعول والقنادر والكيوات والشحاطات التي تركناها عند المدخل ، وكأي سيد مهذب جاء من وراء البحار ، نزع حذاءه الثمين وركنه الى جانب اخوته .
شرح لنا ما معنى أن نكون أسرى حرب .
كان يتحدث ويمسح العرق بفوطة من على وجهه ورقبته ويشرب الماء مع كل جملة ، وكنا ندخن جميعا وننفث الدخان في فضاء الخيمة الخانقة حتى أوشكت على الطيران ، ندخن وننصت لحديثه عن مواثيق الأمم المتحدة وحقوق أسرى الحرب .
كانت هي المرة الأولى بحياتي التي أشعر بها أن لي حقوقاً يمكنني أن أطالب بها ، وهو شعور غريب لم أعهده من قبل ولم أصادفه وخاصة حينما عرفت أن لي راتبا ومخصصات وأني لن أحارب ثانية ولن أدخل في معركة جديدة بعد الان .
وقبل أن يغادر هرباً من الحر والذباب والدخان ، ابتسم بوجوهنا وأحنى رأسه مودعا وعيناه القلقتان تبحثان عن حذائه الثمين .
( لم يجده ) !
وجد ( كيوات ) مصنوعة من حبال الخيام ، ،وجد ( نعول ) بأحجام مختلفة وأشكال مختلفة والوان عجيبة ، وجد كل ما يركب ويحتذى ، لكنه لم يجد حذاءه الملمع .
ارتسمت على شفتيه ابتسامة لامعنى لها ، وأخذ ينظر بوجوهنا متسائلا ، فليس من المعقول أن يسرق أحدنا حذاء ممثل الصليب الأحمر .
تعالت أصوات البعض - يمعودين .. طلعوا القندرة ؟
قال الرفيق سعد - سأكتب تقريراً بهذا لقيادة الحزب .
طلعوا القندرة ؟
دار صالح الأعور عينه السليمة بوجوه الحاضرين وعلى شفتيه ابتسامة ماكرة وقال .
- القندرة تطلع يعني تطلع ؟
قال الخال أبو سبتي - أخوات الكح...... شسوون بقندرة الرجال .
اختفت قندرة مستر بوكا ولم يرها أحد بعد ذلك .
وكما يبدو فالجنتلمان الأنگليزي تعلم الدرس جيداً ، ففي المرات القليلة التي زارنا فيها بعد ذاك ، كان يتجه ناحية خيمة الاجتماعات وحينما يصل الي بابها يخلع حذاءه ، لكنه لايتركه عند المدخل ، بل يضعه تحت ابطه مع أضابيرنا وحقوقنا وقصص حياتنا الملفقة ، ثم يتحدث معنا كأسرى حرب يرفضون العودة الى الوطن وكسارقي قنادر محترفين .
في ذلك الوقت كان معنى الوطن غائما بالنسبة لي على الاقل ، وربما ما يزال الى هذه اللحظة ، فهو بالنسبة لي المنزل والعائلة والأصدقاء والمدينة بما تحويه من شوارع ومقاهي وذكريات ، لكن عندما يتهدم المنزل والعائلة وتدمر المدينة ، تختفي الذكريات وكأنها لم توجد أصلا ، أو تصبح مشوشة ومكرورة كمذكرات معين .
وطننا الجديد هو الشبك والمطبخ والخيام وزعيمنا علي كراوي ، بنينا جامعا ومدرسة ومقر حزب وحانوت يبادل الطعام بالدخان ، وفي وسط الشبك انتصب برج عال لا احد يعرف له غرضا . فهو لايشبه المئذنة ولا اضرحة الأولياء ، ومن يمر بجانبه سيشعر بالاسى للجهد الضائع ببناء ذلك العضو الذكري المجهول .
سنوات الأسر الطويلة والملل القاتل جعلت من الجميع يميلون الى عزلة قسرية ، ابتنى كل واحد منا عالمه الخاص وأغلق الباب خلفه . كان عالمي صورة منزل قرب نهر يلعب بقربه أطفال وأنا أجلس على حافته أصطاد سمك الشبوط ، وحينما حدثت معين بحلمي نظر بوجهي بفتور وقال .
- دروح يمعود ، حلمك هذا حتى بالجنة ما موجود .
خيام تشبه الأفيال تمتد على امتداد البصر ، في داخلها بشر يحلمون ، يبكون ، يلعبون ، الداخل الى خيمتي سيجد معين وسوني وسريران مصنوعان من كراتين المياه ، والداخل الى خيمة ( كريم الدريعي ) لن يجد شيئا على الاطلاق ، لافراش ولا سرير ولا ثياب ، الداخل الى خيمة علي كراوي سيجد كل شئ ، اما الداخل الى خيمة ( صالح الاعور ) سيصطدم بمجموعة من الألغاز والأبواب ، والدخول اليها أو الخروج منها سيقودك الى أبواب وفتحات عديدة ، الباب الأول يؤدي الى ممر ينتهي بباب آخر وعندما تفتحه سيصادفك باب من خشب ثم من حديد وآخر من القماش حتى تصل الى داخل عرشه حيث فانوس يلقي بظلاله على الجدران والأغطية والكراتين ، ويلقي بظله الخافت أيضا على حذاء جديد منظره يخطف الأبصار .

اضافة تعليق


مسجل في دفتري
نص التعليق
زائر
نص التعليق