حفلة من اجل المرحوم
دخل الى شارع المدينة الرئيس حيث يتجمع الناس عادة ويتبضعون ، موكب غريب ، أربعة شبان يحملون نعشاً ، كانوا يسيرون بصعوبة نتيجة ثقل ما يحملون ، وجوهههم شديدة السمرة ، لوحتها الشمس والغبار ، أعمارهم متقاربة وكذلك ملامحهم ، فهم يبدون كأنهم أشقاء أو توائم .
لاحقهم بعض الصبية في بداية الأمر ، ثم رافقهم بعض الشيوخ والنساء اللواتي لا يجدن عملاً سوى البكاء وذرف الدموع على أي عابر مسكين .
تضخم الموكب بمرور الوقت ، فالمدينة الغارقة بالرتابة والملل ، لا تعرف أحداثاً كبرى مثل ذلك الحدث ، كما أنها لا تعرف الموتى كثيراً ، لم تكن هناك حروب ولا نزاعات ولا مقابر حتى .
موتى المدينة يذهبون الى النجف عادة حيث يرحب بهم الموتى الآخرون .
حاول بعض الناس مساعدة الشبان الأربعة بحمل النعش ، لكنهم رفضوا عروضهم بأدب وواصلوا سيرهم يتبعهم الحشد المتضخم الصامت .
تجرأ واحد من الشيوخ وسأل .
- الى أين تأخذون المرحوم ؟
- الى المقبرة . أجاب كبيرهم .
- ربما أنتم مخطأون ، ليس بمدينتنا مقبرة .
وضع الشبان التابوت على الأرض .
قال كبيرهم - اليست هذه الناصرية ؟
غمغم الجمع - انها الناصرية .
- المرحوم قبل أن يموت ، أخبرنا أنه يريد أن يدفن بمدينته .
- ليس بمدينتنا مقبرة ، إذهبوا الى النجف ؟
تحير الشبان وتملموا ثم جلسوا على الأرض قرب النعش لا يدرون ما يفعلون .
مع مضي الوقت تفرق الناس عنهم وأصبح الشارع خالياً الا من رجل سكران إقترب منهم بحذر ، نظر الى الشبان المتشابهين والى التابوت وقال .
- مرحباً شباب ؟
لم يجبه أحد ، التعب والحزن والخيبة من عدم وجود مقبرة جعلت منهم غير راغبين بالحديث مع سكران ، إقترب منهم أكثر ثم جلس بقربهم .
- كيف مات المرحوم ؟
أخرج من تحت ثوبه ربعية عرق وشرب منها .
- هل دهسته سيارة مثلاً ، أم أنه موت طبيعي ؟
ناول ربعيته الى أكبرهم وغمز له ، فتناولها الرجل وأخذ منها رشفة وأعطاها لأخيه .
دارت الربعية عليهم جميعاً حتى وصلت فارغة للسكران .
قال - هلو ، هلو .. الجماعة يبدو عطشانين ؟
- جداً . قالوا بصوت واحد .
وقف السكران ونظر الى المدينة الفارغة وقال .
- ملعونة هذه المدينة تنام مع غروب الشمس ، ولا يبقى مكان مستيقظ فيها سوى ( البار ) . اتبعوني ؟
قام الأخوة وحملوا التابوت وساروا خلف السكران ناحية البار .
كان البار فارغاً تلك الليلة بإستثناء صاحبه وهو رجل طويل ونحيف بارز الفكين .
دخل الأخوة بضجة وطرحوا التابوت وسط البار ووقفوا ينظرون له بحزن .
تحرك صاحب البار بسرعة وجلب لهم الكراسي ووزعها حول التابوت ، ثم جلب لهم بطل عرق وأقداح وثلج ثم وضعها على التابوت .
فتح السكران البطل وملأ الأقداح وزعق - بصحتكم اخوان .
شربوا كؤوسهم الأولى بصمت وحزن ، عند القدح الثالث لعبت الخمرة برؤوسهم فذهب عنهم الحزن والخجل وأخذوا يتحدثون ويتضاحكون ويتبادلون الأنخاب .
قال السكران وهو يمسح بقايا ( الجاجيك ) من على شاربيه .
- وماذا عن المرحوم ؟
- ماذا عنه ؟
- المسكين محصور بالتابوت .
فتح صاحب البار قنينة عرق أخرى وجلس قربهم .
قال - على حسابي .
شربوا القنينة الثانية والثالثة .
قال السكران - ماذا عن المرحوم ؟
قالوا - ماذا عنه ؟
- لا يجوز تركه مخنوقاً بالتابوت .
- نعم ، لا يجوز ، انه صاحبنا وصديقنا ، لا يجوز تركه وحيداً .
تعاونوا على فتح التابوب ورفع غطائه فبان داخله رجل متيبس وعلى شفتيه ابتسامة رضا .
قال السكران - سبحان الله ، أنه فرحان بموته .
أمسكه من تحت إبطيه وأخرجه من مكانه ووضعه على الكرسي وأخذ يتأمله .
- صاحبنا يحتاج الى ربعية عرق حتى يذهب لربه وهو مرتاح ؟
وافقه الباقون على رأيه وسقوا صاحبهم الميت بضعة أقداح قوية .
للعرق فعل عجيب بالناس ، فهو يقرب البعيد ، ويبعد القريب ويخلط أشكال الناس ببعضها ويربك من يشرب منه كثيراً . كما أنه يحفظ أجساد الموتى من التحلل .
كميات العرق الكثيرة التي أغرقت المرحوم ، جعلت منه أشبه بالحي . وما عاد يحتاج شيئاً سوى النطق .
قال السكران - صاحبنا المرحوم يحتاج الى هواء نقي ، لنأخذه بنزهة ؟
ردد خلفه جمع السكارى - طبعاً ، طبعاً .
وضعوا المرحوم وسطهم وخرجوا من البار .
في الطريق الخالي والمظلم أخذوا يغنون ويرقصون ، الغريب هو أن المرحوم أفلت من أيديهم وأخذ يتمرجح ، يأتي بحركات كالرقص ويصدر أصواتاً كالغناء ويكرع من البطل مباشرة كما يفعلون .
توجهوا ناحية گراج السيارات .
ودع الأخوة مضيفهم السكران ، الكريم والشهم وصعدوا إحدى السيارات الذاهبة الى البصرة دون أن يتذكروا المرحوم .
بعد أن غادروا تلفت السكران من حوله وغمغم - أين ذهب المرحوم ؟
بحث من حوله وهز رأسه .
- ربما ذهب لبيتهم فهو أصلاً إبن هذه المدينة ويعرف الطريق جيداً .
اضافة تعليق