احصائيات

عدد إدراجاتك: 9

عدد المشاهدات: 1,622

عدد التعليقات المنشورة: 0

عدد التعليقات غير المنشورة: 0

دفتري.كوم
تصفح صور دفتري تصفح اقتباسات دفتري تسجيل / دخول






Articles

تراب الصحراء


تراب الصحراء كالأكاذيب لا يمسك، لونه أحمر قاتماً يلتصق بالخيام المزيتة فيصبح له قوام الطين، وكنت ألمح جاري الذي يسكن الخيمة المجاورة يخرج بعد هدوء العاصفة ويبدأ بقشط التراب من على سطح خيمته ويصنع منه (ترب حسينية) يوزعها على رفاقه المصلين، يبادلها معهم بسرور كأنها لقى أثرية وحينما عرضت عليه أن أساعده بنقشها لأجادتي الخطوط العربية، رفض عرضي بشدة وكرهني منذ تلك اللحظة فلم يعجبه وجود جار ينافسه إكتشافه الفريد فالمكان لا يسع غير صانع (تُرب) واحد
الأرطاوية تقع في اللامكان، أو هكذا تخيلتها في بداية الأمر لأنني لم أعرف عدد الأيام التي استغرقتها الشاحنات وهي تقطع الصحراء بنا الى عمقها، حيث لاماء ولاشجر ولاطيور، لكن ناحية شباك مسورة بشباك أطلقونا ناحيتها فتراكضنا الى داخلها وكأنها ستمنحنا ظلاً وطمأنينة، تزاحمنا على الدخول الى القفص وكنت أحشر جسدي بين الداخلين أدفعهم بأكتافي وأستميت في الدخول ولم أعرف حتى هذه اللحظة لم كنت أركض معهم والى أين؟
كانوا جميعا يتراكضون ناحية خيام وأعمدة مطروحة وسط (الشبك) تلقفوها سريعا، أخذوا الخيام والأعمدة والأفرشة وأنا وسطهم لاأدري ما أفعل؟
حصلت بعد عراك طويل على نصف عمود و (سطل) من البلاستيك، وعندما تفرقوا ونصبوا خيامهم ونكثوا أفرشتهم من التراب، جلست على (سطلي) وسط الشبك وأنا في كامل (بيجامتي) ممسكاً بنصف العمود، أي في مملكتي وهي ملكية على أية حال (أحسن من الماكو) مثلما يعتقد عباس طيارة! 
قررت منذ تلك اللحظة الهرب من ذلك المكان الذي لايرحم.
دوما يبقى الهروب بالنسبة لي فكرة جذابة، تجذبني إمتدادات سكك الحديد والطرق الطويلة التي تؤدي الى قرى منعزلة وبيت ترعى حوله خرفان ودجاج.
مرة أخبرني صديق كان يعمل طبيباً بيطرياً عن تجواله في القرى والحقول وعن وصوله الى قرية في أقاصي الناصرية قال .
وصلت الى بيت منعزل وطرقت الباب فخرجت امرأة كأنها استيقظت للتو، أخبرته إن زوجها مات في الحرب ودعته للدخول..
لكنه لم يدخل 
كم تمنيت لو أنني كنت مكانه، لأخذت المرأة التي كأنها استيقظت للتو وعشت في ذلك المكان المنعزل مع الخرفان والحمير.
أتذكر اثناء هروبي بعد الأنتفاضة أنني توغلت بعيداً ماشياً على قدمي الى الصحراء آملاً أن أجد خيمة تقطنها بدوية أرملة قتل زوجها في الحرب، تدعوني للدخول وتشعل التنور وتخبز لي أقراص خبز الوكها وأنا انظر الى قرص الشمس وهو يغيب، لم يحدث أني وجدت ما أبحث عنه ومازلت أحلم بإمتدادات سكك الحديد والطرق الملتوية التي توصل الى بيت منعزل وامرأة تمسح النعاس عن جفنيها.
معسكر الأرطاوية مقسم الى ثلاثة أقسام، قسم داخلي وهو الذي كنت اعيش به وآخر إنفرادي ويتوسطهما القسم المثالي.
في الحقيقة لا معنى للأسماء، الأشباك متشابهة في كل شيء، فهي عبارة عن مستطيل لا تتجاوز مساحته الألف متر مربع محاط بشبك مزدوج من الأسلاك تتوزع فيه خيام متجاورة يقوم بحراستها سعوديون يمضغون (المساويك) طيلة الليل والنهار ويروون الأقاصيص الخيالية عن الشيعة الكفرة، وكلما غلظ المسواك وطال فهذا دلالة على زيادة في الورع والتقوى، وان قصر فهذا دلالة على قصر إيمان المستاك السعودي.
في كل شبك عشرة مراحيض قذرة وعشر حنفيات ماء تجود علينا بالماء مرتين فقط في اليوم، مرة في الصباح وهذا ما لم أستطع الحصول عليه مطلقاً لأنني لا أستيقظ مبكراً، ومرة في المساء وبجانبها مطبخ فيه قدور ضخمة جداً لم أر مثلها حجماً بحياتي، قدور يمكنك أن تطبخ بها بعيراً كاملاً أن شئت أو تصنع منها حوض سباحة إذا رغبت وكنت تمتلك السلطة في الشبك، ولطالما حسدت علي كراوي حينما كنت أراه طافياً في القدر ينش حرّ الظهيره والرمال عن جسده، يستلقي عارياً في القدر الضخم المملوء بالماء وينظر بعينيه الحالمتين الى الخيام التي تشبه الأفيال ومن حوله عصابته وزعرانه.
المطبخ أهم مكان في الشبك وإحتلاله يشبه القيام بالأنقلاب على الحكومة واستلام السلطة ففيه سكاكين وسواطير لتقطيع اللحم وهذا ما يجعله مداراً تحاك حوله المؤامرات والمعارك فمن يسيطر على المطبخ يسيطر على الشبك كله.
الحياة في الشبك خطرة جداً، الخليط الغريب والعجيب من البشر يوحي بالشر وخاصة في الأيام الأولى، فليس كل من خرج بعد الأنتفاضة هو ثائر بالضرورة وليس كل من وصل الى الأرطاوية هو ضد الحكومة، هناك مساجين خطرين فروا من السجن أثناء الفوضى وهناك هاربين من الجيش ومندسين من المخابرات كما يشاع، كما أن هناك أبو حمزية مثلاً عريف الأعاشة الخبير بمقدار الملح والبهارات والتمن ولا علاقة له لامن قريب ولامن بعيد بالخروج ضد الحكومة ولم يفكر بحياته ولو للحظة واحدة بالهرب من الجيش، لأنه يعتقد ان الإعاشة فن من الفنون ووصفها لي ذات يوم بأنها بحر!
وذكر لي ان سبب خروجه من العراق هو زوجته (البدوية) كما يحب أن يسميها والتي كانت تسومه العذاب ليل نهار ففر بجلده منها تاركاً الجيش والأعاشة والمقادير المضبوطة الى الجحيم. وكان يحدثني أيضاً عن إبنته حمزية التي يريدها عروساً لي.
قلت متسائلاً – هل هي بدوية ايضاً؟
قال وهو يبتسم بطمأنينة - لا.. حمزية تشبهني.


اضافة تعليق


مسجل في دفتري
نص التعليق
زائر
نص التعليق