احصائيات

عدد إدراجاتك: 9

عدد المشاهدات: 1,622

عدد التعليقات المنشورة: 0

عدد التعليقات غير المنشورة: 0

دفتري.كوم
تصفح صور دفتري تصفح اقتباسات دفتري تسجيل / دخول






Articles

ايام ١


أردت أن اكتب ذاكرتي ، صورة السنوات التي عشتها محشورا في قفص وسط الصحراء مع ناس لا أعرفهم ولم التق بهم بحياتي ، لكنهم أصبحوا اصدقاء ورفاق درب عشت معهم أعوام عصيبة مازلت أحمل آثارها على جسدي وروحي ، تلك الآثار التي تذكرني دائماً بذلك الكابوس المرعب الذي يدعى ( الأرطاوية ) .

لا أدري أية ذاكرة تلك التي تصنع أماكن شريرة مثل ( الأرطاوية ) ، ولا أدري كيف تسنى لنا الوصول الى ذلك المعسكر المنقطع عن العالم ، وعشنا فيه لما يقرب السنتين قبل أن نشد الرحال الى ( رفحاء ) ثم الى ارض الله الواسعة نواجه مصائرنا بسخرية من أدمن الترحال الى الأبد .

الصحراء قبيحة ككل أيام الحروب ، لا ساعات صفاء ولا من يحزنون ، قرص الشمس الملتهب ، كرة النار الضخمة تقفز من خلف الخيام وتسقط في الجانب الأخر من الخيام ، وخلال رحلتها المضنية تلك تسلق اجسادنا بالحر الذي لا يصدق وبالرمال والحصى الناعم والتراب .

تراب الصحراء كالأكاذيب لا يمسك ، لونه أحمر قاتماً يلتصق بالخيام المزيتة فيصبح له قوام الطين ، وكنت ألمح جاري الذي يسكن الخيمة المجاورة يخرج بعد هدوء العاصفة ويبدأ بقشط التراب من على سطح خيمته ويصنع منه ( ترب حسينية ) يوزعها على رفاقه المصلين ، يتبادلها معهم بسرور وكأنها لقى أثرية ، وحينما عرضت عليه أن أساعده بنقشها لأجادتي الخطوط العربية ، رفض عرضي بشدة وكرهني منذ تلك اللحظة ، فلم يعجبه وجود جار ينافسه إكتشافه الفريد ، فالمكان لا يسع غير صانع ( تُرب ) واحد .

الأرطاوية تقع في اللامكان ، أو هكذا تخيلتها في بداية الأمر ، لأنني لم أعرف عدد الأيام التي استغرقتها الشاحنات وهي تقطع الصحراء بنا الى عمقها ، حيث لا ماء ولا شجر ولا طيور ، لكن ناحية شباك مسورة بشباك أطلقونا ناحيتها فتراكضنا الى داخلها وكأنها ستمنحنا ظلاً وطمأنينة ، تزاحمنا على الدخول الى القفص وكنت أحشر جسدي بين الداخلين أدفعهم بأكتافي وأستميت في الدخول ولم أعرف حتى هذه اللحظة لم كنت أركض معهم والى أين ؟

كانوا جميعا يتراكضون ناحية خيام وأعمدة مطروحة وسط ( الشبك ) ، تلقفوها سريعا ، أخذوا الخيام والأعمدة والأفرشة وأنا وسطهم لا أدري ما أفعل ، حصلت بعد عراك طويل على نصف عمود و ( سطل ) من البلاستيك ، وعندما تفرقوا ونصبوا خيامهم ونكثوا أفرشتهم من التراب ، جلست على ( سطلي ) وسط الشبك وأنا في كامل ( بيجامتي ) ممسكاً بنصف العمود ، أي في مملكتي وهي ملكية على أية حال ( أحسن من الماكو ) مثلما يعتقد ( عباس طيارة ) ! وقررت منذ تلك اللحظة الهرب من ذلك المكان الذي لا يرحم .

دوما يبقى الهروب بالنسبة لي فكرة جذابة ، تجذبني إمتدادات سكك الحديد والطرق الطويلة التي تؤدي الى قرى منعزلة وبيت ترعى حوله خرفان ودجاج ، مرة أخبرني صديق كان يعمل طبيباً بيطرياً عن تجواله في القرى والحقول وعن وصوله الى قرية في أقاصي الناصرية قال .

( وصلت الى بيت منعزل وطرقت الباب فخرجت امرأة كأنها استيقظت للتو ، قالت له إن زوجها مات في الحرب ودعته للدخول ) .

لكنه لم يدخل !

كم تمنيت لو أنني كنت مكانه ، لأخذت المرأة التي كأنها استيقظت للتو وعشت في ذلك المكان المنعزل مع الخرفان والحمير .

أتذكر اثناء هروبي بعد الأنتفاضة أنني توغلت بعيداً ماشياً على قدمي الى الصحراء آملاً أن أجد خيمة تقطنها بدوية أرملة قتل زوجها في الحرب ، تدعوني للدخول وتشعل التنور وتخبز لي أقراص خبز الوكها وأنا انظر الى قرص الشمس وهو يغيب ، لم يحدث أني وجدت ما أبحث عنه ومازلت أحلم بإمتدادات سكك الحديد والطرق الملتوية التي توصل الى بيت منعزل وامرأة تمسح النعاس عن جفنيها .

معسكر ( الأرطاوية ) مقسم الى ثلاثة أقسام ، قسم داخلي وهو الذي كنت اعيش به وآخر إنفرادي ويتوسطهما القسم المثالي .

في الحقيقة لا معنى للأسماء ، الأشباك متشابهة في كل شيء ، فهي عبارة عن مستطيل لا تتجاوز مساحته الألف متر مربع محاط بشبك مزدوج من الأسلاك تتوزع فيه خيام متجاورة يقوم بحراستها سعوديون يمضغون ( المساويك ) طيلة الليل والنهار ويروون الأقاصيص الخيالية عن الشيعة الكفرة ، وكلما غلظ المسواك وطال فهذا دلالة على زيادة في الورع والتقوى ، وان قصر فهذا دلالة على قصر إيمان المستاك السعودي .

في كل شبك عشرة مراحيض قذرة وعشر حنفيات ماء تجود علينا بالماء مرتين فقط في اليوم ، مرة في الصباح وهذا ما لم أستطع الحصول عليه مطلقاً لأنني لا أستيقظ مبكراً ، ومرة في المساء ، وبجانبها مطبخ فيه قدور ضخمة جداً لم أر مثلها حجماً بحياتي ، قدور يمكنك أن تطبخ بها بعيراً كاملاً أن شئت أو تصنع منها حوض سباحة إذا رغبت وكنت تمتلك السلطة في الشبك ، ولطالما حسدت ( علي كراوي ) حينما كنت أراه طافياً في القدر ينش حرّ الظهيره والرمال عن جسده ، يستلقي عارياً في القدر الضخم المملوء بالماء ، ينظر بعينيه الحالمتين الى الخيام التي تشبه الأفيال ومن حوله عصابته وزعرانه .

المطبخ أهم مكان في الشبك ، وإحتلال المطبخ يشبه القيام بالأنقلاب على الحكومة واستلام السلطة ، ففيه سكاكين وسواطير لتقطيع اللحم وهذا ما يجعله مداراً تحاك حوله المؤامرات والمعارك ، فمن يسيطر على المطبخ يسيطر على الشبك كله .

الحياة في الشبك خطرة جداً ، الخليط الغريب والعجيب من البشر يوحي بالشر ، وخاصة في الأيام الأولى ، فليس كل من خرج بعد الأنتفاضة هو ثائر بالضرورة ، وليس كل من وصل الى الأرطاوية هو ضد الحكومة ، هناك مساجين خطرين فروا من السجن أثناء الفوضى وهناك هاربين من الجيش ومندسين من المخابرات كما يشاع ، كما أن هناك ( أبو حمزية ) مثلاً عريف الأعاشة الخبير بمقدار الملح والبهارات والتمن ولا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بالخروج ضد الحكومة ولم يفكر بحياته ولو للحظة واحدة بالهرب من الجيش ، لأنه يعتقد ان ( الإعاشة ) فن من الفنون ووصفها لي ذات يوم بأنها بحر !

وذكر لي ان سبب خروجه من العراق هو زوجته ( البدوية ) كما يحب أن يسميها والتي كانت تسومه العذاب ليل نهار ، ففر بجلده منها تاركاً الجيش والأعاشة والمقادير المضبوطة الى الجحيم . وكان يحدثني أيضاً عن إبنته ( حمزية ) التي يريدها عروساً لي .

قلت متسائلاًهل هي بدوية ايضاً ؟

قال وهو يبتسم بطمأنينة - لا ... حمزية تشبهني .

تخيلت حمزية تشبه الكهل الضخم الجالس قبالتي تطبخ بمقادير مضبوطة ، فهي مثل والدها تعلمت على يديه كيف تضيف الملح والبهارات على المرق وتغرف التمن ب ( الكرك ) وعندما أغيب عن المنزل تنزلني من القوة والقدر .


اضافة تعليق


مسجل في دفتري
نص التعليق
زائر
نص التعليق