يسعدني دوماً أن أتحدث عن (التوتي) جيراني الطيبين وأحاول إرجاعهم الى بيوت الناس بعد أن غادروها الى غير رجعة، فتلك المخلوقات المرحة والمجدة بعملها والخلوقة، غادرت بيوتنا وتخلت عن حمايتنا نتيجة أخطائنا معها وتقتيرنا عليها والهزء بها، ف التوتي الواحد يستهلك غرامين من الشاي وستة غرامات من السكر في اليوم، ويلهم صحن طحين واحد وتلك المواد لاتشكل عبئاً كبيراً على واحدنا، مقابل كل تلك الأعمال الجليلة التي يقوم بها من أجلنا، فهو مثلاً أقصد التوتي (جم جام) الذي مازال يصادقني ويعيش مع عائلته في شقتي في خزانة الطعام.
جم جام يقوم مع أول خيوط الفجر ويضع قوري الشاي الصغير تحت الشمعة ثم يقوم بكنس المكان ويطارد النمل والبق ويبول على الأعشاب الجافة ثم يعمل على إيقاظي رغم أني لا أحبذ الاستيقاظ مع أول طلوع الشمس.
- تأخر الوقت يا سيد؟
أمسكه من قبعته الطويلة الملتصقة برأسه وأقربه من فمي وأصرخ.
- ماذا فعلت لك يا جم جام حتى توقظني من نومتي كل يوم.
يجيب بصوت عميق لايتناسب مع حجمه الضئيل.
- الأمر خطير يا سيد، خطير جدا.. جماعة التوتي غادروا بيوت الجيران وذهبوا ليعيشوا في الحانة وهذا ليس بالأمر الحسن، فهم قد إستبدلوا شرب الشاي بالخمر، وهذا خطير جداً أخطر مما تتصور، فمن سيوقظ الأمهات ليرضعن أطفالهن ومن سيقرص ذيول الكلاب لتنبح على اللصوص ومن سيراقب الفتيان حينما يسبحون في النهر؟
ثم مسح خيط الطحين من على شفتيه وأكمل.
- عليك باقناعهم في العودة لمنازل الناس والكف عن شرب الخمر والا حدثت كارثة.
- ماذا سيحدث يا جم جام؟
- سيكف الديك عن الصياح وستنام الكلاب ويتكاسل الفلاح.
إستدار بكامل جذعه وسار الى جانب الحائط ثم قال.
آه.. قل لهم جم جام سيقيم حفلة شاي.
في حانة (دقة بدقة) التي إزدهرت وتكاثر روادها نتيجة الخدمات التي يقوم بها التوتي المهاجرون فهم لايتركون وشلة خمر في كأس أحدهم، فبمجرد أن يشرب الزبون كأسه ويضعه علي المنضدة يسارع جمع التوتي الى لعق الكأس فيخرج نظيفاً براقاً بشكل يسعد أي كان، كما أنهم يلعقون كل القطرات من على المنضدة فتعود نظيفة كما كانت، ويلهمون فتات الطعام ويطاردون الفئران ويبعدون البق عن دنان الخمر ويدخنون أعقاب السجائر، حتى أصبحت حانة دقة بدقة أنظف مكان في المدينة.
أجبت- ولكن يا جم جام كيف لي باقناع توتي سكران على حفلة شاي؟
- أهاا.. خذ معك طبق جص؟
تبسمت للفكرة فأنا أعرف إن جم جام يهدد صغارة بوضع الجص في شايهم حينما يعملون مشاغبة، لذلك وضعت قبضة منه بجيبي وذهبت للحانة.
طلبت كأس بيرة مضاعف الحجم وجلست أرقب التوتي وهم يعملون بهمة ونشاط في تنظيف الكؤوس وينظرون لي بطرف خفي.. رفعت كأسي وشربت منه جرعة كبيرة ثم خلطته بالجص وأعدته على سطح المنضدة.
جاء التوتي يتراكضون ودخلوا في الكأس فتكلس عليهم الجص.
وضعت الكأس بجيبي وخرجت وكانت أصواتهم الغاضبة تصل سمعي.
- ماذا تفعل أيها السيد المهذب.. ماذا تفعل؟
قلت- صديقنا جم جام لديه حفلة شاي.
- شاي.. شاي، آه شاي..
لا أعرف كيف خلصهم جم جام من كأس الجص.
حيث ريشة الخيال تعجز أمام ريشة الطبيعة.