احصائيات

عدد إدراجاتك: 9

عدد المشاهدات: 1,622

عدد التعليقات المنشورة: 0

عدد التعليقات غير المنشورة: 0

دفتري.كوم
تصفح صور دفتري تصفح اقتباسات دفتري تسجيل / دخول






Articles

خرائط اسماعيل



إسماعيل ، تلك الهيئة الحالمة التي تفر من ألكلمات ، وجدته يظهر كشخص غريب يجر خلفه جماله الهزيلة والمحملة بخرائط مدينة حالمة تصلح لكل الفصول والأسماء ، وتنمو بها فاكهة الصيف في الشتاء وابقارها تلد التوائم ، التقيته أثناء عبوره مجاهل الأرض وحيداً حيث يضّل قيافو الرمال وسط عجائب الوجود ، شاهدت لمساته على أكثر الأماكن حميمية ، في الغرف والخلوات ، على الأسرة والأغطية يشارك الجميع أسرارهم وخفاياهم ويمد بسمرهم حتى الفجر مترنمين بقصائده الشقية التي جعلت من سلطان الأرض - نادر شاه - ذي الشوارب المعقوفة والعيون التي تحمل شراسة الفهد يقطع رحلة فتوحاته ويوجه جواسسيسه لخنق القصائد

شاركته بحثه عن طريق لاجتياز الصحراء بعد أن فشل بإقناع شيوخها بمخطط مدينة احلام تنام فيها الدواب على كمائن العلف ، ثم رحلته العجيبة إلى أرض الله البعيدة قاطعاً الاف الفراسخ على قدميه ، بينما أخذت جماله الهزيلة تنفق واحداً بعد الآخر وتذهب بأحمالها الثمينة من الورق وهو يردد ليعزي نفسه

- لا شئ يهم ما دام رأسي سليماً

إلى أرض الله ألبعيدة حيث لا ملوك ولا سلاطين يعلقون رؤوس أعدائهم في غرف الطعام ويضاجعون جواريهم على جثثهم توغل إسماعيل إلى موطن زعيمها ألمحتجب خلف متاهة الفراسخ ووجده جالساً في رهافة خياله وحوله فتية أقوياء ينادونه يا أبي ، وفتيات خلاسيات بسيقان لامعة وأثداء مستيقظة يدرن حوله ويخدمن ضيوفه ، ومن شفاههن المسكونة بلذعة الحشيش والتنباك بادلن إسماعيل سحر الحشائش وخدر الأعشاب ، فدار عليهم الدخان واحداً بعد الآخر وهم ينظرون بدهشة لضيفهم العجيب الذي فرش خرائطه على الأرض وكشف لهم عن مدينة من الخطوط

أمتدت يدا الزعيم ألموشومة بأحتراس الى أوراقه وتحسست تطاحن الخطوط الصاعدة األنازلة والتي لم يفقه منها شيئاً ، كما لم يفهم سر رحلة ضيفه الغريب وجريه وراء معضلة تقسيم الأرض إلى مربعات وزوايا . نظر بوجهه ألمتعب وتمتم بصوت خفيض

- أتنام أيها السيد ؟ 

ثقل جفنا إسماعيل بسبب الأرهاق والدخان ووضع رأسه على الأرض ونام ، وبعناد الخاسر القوي أخذ يهذي عن مدينة أحلام نشأت في فجر خياله كالكمين .... إنسحب الزعيم مع رجاله وبقيت الفتيات يراقبن الضيف وحلقة النار ... نام إسماعيل ثلاث ليال متواصلات وكانت الفتيات يدهن أورام قدميه ويعالجن قروحه كي يبسط جناحيه للخطى التي بإنتظاره ، وحينما أفاق وجد أصابعه تتشابك مع أصابع الفتاة ألموكلة بالنظر في عينيه حتى لا تفترسه كوابيسه ، فتح عينيه ليلتقط أنفاسها ويرشد خياله إلى هبات جسدها

قالت الفتاة - أبي يظن إنك مسافر خالد ظللت طريقك لتبارك أرضنا

فتطلع إسماعيل بكسل بعيني مضيفته وود لو ان رحلته تنتهي في هذا المكان ، لو أن أحلامه وخرائطه لم توجد أصلا . وكأن الفتاة علمت بما يدور برأسه فقالت - لا نحتاج الى خيال كبير لبناء بيت نربي فيه الأطفال والدجاج

هزً إسماعيل رأسه موافقا ولم يكن يدري كيف هاجت به رغبة الاستسلام إلى ذلك الملك المنعزل حتى كادت روحه أن تسلم قيادها الى حنكة أصابع الفتاة فيعاود النوم ثانية بعيدا عن ريبة عقله التي أستوطنتها ظلال الخطوط فغمغم

- ربما أنت على حق .. لكن هناك ما ينتظرني

ونهض من فراشه فرفعت جماله أبصارها كالمستجدة من جهات الله السبع

إلى أرض الله الواسعة أسلم قافلته إلى مقاديرها وترك جماله تقوده مستعينة بخيالها ناحية الأقاليم الكبرى ، من أرض الزعيم الى أرض الغابات حتى جزائر - السندهند - التي تنازع عليها سلاطين اليابسة مفتونين بروائح توابلها وعروق الدارصيني ، ومن أفواه الرعاة الهاربين سمع إسماعيل أن هناك جيشاً عظيماً يقوده سلطان المسلمين (( نادر شاه )) ليهزم به الكفار من أجل مدينة مسلمة

فلاحقه وهو يكاد يشرق بخيال شعرائه الذين كانوا يكتبون أعذب قصائدهم على جلود أعدائه المدبوغة .... لاحقه عابراً صحراء الملح الكبرى تجذبه رائحة قتلاه المسلوخين الذين كانوا ينتشرون على طول الصحراء ، لأن كل جلود أولئك الضحايا ما كانت تكفي لكتابة مديح واحد ينظمه شاعره وربيبه الموهوب - ابن ميمون - . 

كانت قصائد شاعره وربيبه بأسبابها وأصواتها خيال نادر شاه الناطق وبها كانت تظهر صورته للوجود بشاربيه المعقوفين وفرمانانته التي نقلت خطابه العنيف الى ما وراء البحار

وبعناد من لاحق أحلامه الى أطراف ألأرض ، ربط إسماعيل جسده الى جمله ولاحق الريح التي حملت له المزيد من رائحة القتلى المسلوخين حتى أصطدم بالبحر ووجد جيوش السلطان تعمل على صنع سفن قوية تمكنه من العبور الى الجانب الآخر ، وفي تلك البقعة من العالم توسل إسماعيل بحرسه وخصيانه وقيافيه من أجل أن يراه ويعرض عليه مخطط مدينة ينام بها أطفال المسلمين فأدخلوه عليه

- عفوك يا أبا ألرجال

تمتم إسماعيل بصوت ضارع خشية أن يصبح جلده رقعة لهذر مداحيه ، إنها لحظته الأولى ، شوق روحه لعرض خرائطه وأحلامه فأستعان بيديه يتلمس طريقه داخل غرفة نادر شاه المظلمة ، فوجد آدمياً ضئيلاً يجلس على كرسي ويصوب ناحيته بندقية طويلة ماسورتها كالبوق

إنبعث صوت متهدج من الجسد الضئيل

- كيف إهتديت لمكاني ؟

تراجع إسماعيل الى الخلف متجنباً البندقية التي كانت ماسورتها تغطي وجهه وتنبعث منها رائحة البارود وجلود الآدميين

- بالخيال يا أبا الرجال ، وبخطوات الموتى

رنت الكلمات رنين النحاس في الفراغ المظلم ، فراغ العوالم القاسية والأقدار التي ساقته الى ذلك البريق الوحشي والغرفة الرطبة المشبعة بعفونة الجلد المدبوغ والتي لم تنفع معها الأفاوية ولا أعواد المصطكي ، فخيم الرعب والموت على المكان والتمعت عينا السلطان وهو يحدق بذلك الكائن الغريب الذي سلقته الشمس

- حسبك هذا وماذا تريد ؟ 

خرجت الكلمات كالموت من فم السلطان المخيف

قال إسماعيل - اردت أن أعرض عليك حلم مدينة مسلمة

وحينما حاول فتح خرائطه ليعرضها عليه قفز السلطان من كرسيه وأخذ بتقليبها على عجل خوفا من أن تحوي سلاحا بداخلها لأنه ما عاد يثق حتى بخياله ، منذ أن مزقت خناجر أعدائه رقبة مدّاحه العذب وربيبه إبن ميمون سليل القصائد الساهرة على حلم سلطانه العريض ، منذ أن أخذوه على غفلة منه وقطعوا لسانه ووضعوه بمؤخرته ليحرموه من المديح الذي لا يستعذب غيره ، وحينما رأى السلطان جسد شاعره الحبيب مشوها بتلك الصورة ، أقسم بالريح والجبال وبأثداء أمه الهرة القاجارية بأنه سيكتب كل ما نطق به أبن ميمون على جلود اعدائه ، اقسم نادرشاه بأنه سيجعل من أست زعيم معارضيه رقعة لآخر كلمة نطق بها شاعره الحبيب ، حتى تضخم قلبه وأصبح كألطبل من عفونة جلد القصائد التي تحيط به

خفض السلطان بندقيته ووضعها على الأرض فألتمعت فصوص خواتمه ، تلك الفصوص التي تمنح عينيه شراسة الفهد ، وأدنى منه وجهه ألخمسيني النحيف وقال وهو يرمي بخرائطه

- كفى هذرا .... إن الله أدخرنا لشئ أفضل

وأمر بأحراق أوراقه الثمينة وخرائطه ليشفيه من سقمه ثم تركه على الشاطئ مع بغلة شهباء وبضعة قصائد غير موزونة كتبها إبن ميمون في واحدة من ساعات ضجره وأبحر الى الجانب الآخر

بقي إسماعيل لأيام يتطلع ناحية سفن السلطان الذي خذله وحينما لم يجد ما يفعله فرش القصائد على الأرض واخذ يتأملها بروح ذابلة عساها ترد اليه بعض من عزيمته فيواصل الرحلة ثانية ، قرأها مرات عديدة فوجد بها عزاءاً كبيرا يعوضه فقده خرائطه الحالمه فكان يرددها وكأنها تعاويذ خالدة حتى تماسكت عزيمته بفعل الكلمات العذبة التي إقتنصها إبن ميمون في واحدة من ساعات عمره ، وبعناد من لاحق أحلامه الى نهايات الأرض أخذ بحذف وإضافة بعض المقاطع الى قصائد الوحدة حتى أحالها الى صفحات مليئة بالخربشات تشبه خرائطه الأولى وحينما إستنفدها تماما أسر الى بغلته الشهباء

- أستطيع أن أقول ألشعر الان

فأنطلق لسانه الذي كبته طيلة حياته خلف الخطوط الصاعدة والنازلة بألغناء ، فتلاقفت ألريح قصائده واستجابت لها الصحراء والمدن ، ولم يكن هذا ليدهشه وهو المستنجد بشفاعة السماء وبهول رحلاته التي اكسبته حقيقة الوحدة والفناء ، وإذ أصغى لصوت روحه وجد أن لا شئ يستهويه فيغني له بقصائده كما يفعل الشعراء ، لا شئ من أول بزوغ الشك في قلبه حتى انطفاء أحلامه وحرق خرائط مدنه على يد نادر شاه ، هكذا ألزم نفسه بقدر الهجاءآت ورسم حروفه بمآثر الشتائم التي وصلت أسماع السلطان حينما تجرأ أحد رسله الذي يلحن بالعربية وقرأ عليه سيل الشتائم والسباب التي سلح بها الشاعر الجديد على عمامته

- ساشويه حياً

قالها السلطان وهو يتصبب عرقاً بارداً وإنفجرت إحدى خرزه الصفر من الغضب ، تلك الخرز التي تمنحه شراسة الفهد ، وشهد الحاضرون إنطفاء نظرته الكاسرة حينما حمل له رسله العديدون المزيد من تلك القصائد التي تصف اٌمه ألقاجارية بالهرة ذات الثماني أثداء ، فصرخ كالمسحور

- سأقتل كل شعراء ألأرض .. 

وأدار وجهة سفنه الى اليابسة ثانية ليخنق مصدر الكلمات قبل أن تصل أسماعه ثانية ، ليخنق كل الشعراء  الأرض ، ثم أطلق جواسيسه وقتلته في أسواق بغداد وجلس وحيداً وسط عفونة غرفته يطلق الرصاص على أشباح نحيلة تحاربه بالكلمات ، وحينما لم يستطع أحد ممن أرسلهم في إسكات ذلك الصوت الذي يعذبه ، إنسل خلسة من معسكر جنده وتزيا بزي درويش ليخفي شراسة عينيه الصفراوين وإنطلق يبحث عن مصدر تلك القصائد ليغمد خنجره برقبة قائلها

كل ليلة أثناء عبوره وتسكعه في أسواق بغداد كان يجالس الشعراء وحلقات المتأدبين عسى أن يرشده أحد ما إلى غريمه وعدوه ، لكن أيا منهم لم يكن يعرف من أين تأتي تلك القصائد ، حتى عزا ألعارفون منهم إن روح إبن ميمون عادت من السماء لتصب غضبها عليه وتستبدل تلك ألمدائح العذبة بخبث الأسرار المهتوكة ، لكن نادر شاه ألجندي الذي كانت بوابات العالم تفتح أمام منجنيقاته وسفنه لم يكن يثق بخيال الشعراء وهذرهم ، وأن ربيبه المخلص لا يمكن أن يعود ثانية ليهجيه

وفي يوم عاثر الحظ كانت خطى السلطان تقوده ناحية قصر سيد بغداد فدخله وهو يتلفع بأطماره البالية دافعاً بمنكبيه الخدم والحرس الذين لم يتجرأ أحد منهم ويقف في طريقه ، مر من حديقة القصر المسقوفة فتقافزت الدجاجات حول قدميه وطارت العصافير الى الشرفة وفتحت نوافذ كل ألغرف وأطل منها أبناء سيد بغداد الذين إنقادوا له كالمسحورين وشيعوه بنظراتهم الوجلة وهو يدخل حظيرة الحيوانات ويختار غزالا سمينا ويهوي على رقبته بخنجره فتغرق ملابسه بألدماء ، ثم جره خلفه ناحية الباب المؤدي الى الداخل ، دفعه بعنف ففر الاطفال مذعورين من هيئته المرعبة وأختفت النسوة في غرفهن وهن يرتجفن ، جر الغزال خلفه حتى وصل مطبخ القصر ورمى به الى الطباخين المذعورين وقال

- إنضجوه جيداً

ثم إتجه ناحية البهو الكبير حيث كانت وفود العشائر تحيط بسيد بغداد ، إقتحم عليهم المكان بأطماره الملوثة بالدم ونظراته الكاسرة ، فنهض الجميع على اقدامهم وساد سكون مطبق للحظات طويلة وهو يسلقهم بعينيه اللتين لا ترحمان ، فتقدم اليه سيد بغداد فاتحاً ذراعيه ومردداً

- مرحباً بأبي ألرجال

إتجه نادر شاه الى صدر البهو وسط الصمت المخيف وأشار الى الرجال

- أريد منكم أن تجمعوا ليّ كل شعراء الأرض

@@@ 

- ما ألشعر يا سيد ألقوافي ؟

بحث إسماعيل في ممرات خياله عن مصدر تلك الغواية التي هيجت معدن لسانه ، بحث في عزلة روحه عن تلك البلبلة التي أجتاحت كيانه ولم يجد جواباً لما أصاب عقله من تغير ، فقد كانت الهجاءآت تأتيه من مصدر لا يعلمه وتنزل على قلمه ولسانه وتسابق قدميه وهو يجوب المدن والامصار فيجدها تسبقه وتصل قبله الى الناس الذين كانوا يتسارون بها في مجالسهم خفية ويضحكون بها من سلطان الأرض ، حتى أنها سبقته الى بغداد المدينة التي كان ينمو بها الشعر كالفطر ويتقاسمه الناس في مجالسهم ويتساءلون عن كنه الشاعر الجديد وما يرمي من وراء كل هذا

دارت عيناه في أرجاء الحقول الواسعة التي لا يحدها البصر ، وادرك أن رحلة الصحراء قد إنتهت في بغداد حينما عصفت بأنفه رائحة خيال المدينة الطائش ببيوتها واسواقها وناسها ، وسأل أول عابر يلتقيه عن منزل سيدها ، فاشار العابر الى القصر الكبير الذي انعكس بريق الشمس على نوافذه وابوابه فرفع رأسه وشاهد ذلك البناء المحصن بالأسوار والذي يعج بالحركة والنشاط وقد أحاط به جمع غفير من الناس

أكمل العابر - يبدو إنك غريب عن بغداد ؟ 

قال إسماعيل - ليس تماما

قال الرجل - هل أنت شاعر ؟ 

تطلع اليه إسماعيل بريبة فأبتسم الرجل وقال

- أصبحت بغداد تعج بالشعراء القادمين من كل جهات الارض حتى إمتلأت أسواقها بهم ، فأذا كنت شاعراً كما خمنت فتعال معي

سار الإثنان ناحية قصر سيد بغداد . قال الرجل

- اتيت من الجنوب بعد أن سمعت بدعوة سيد بغداد لكل شعراء الأرض .. وعلى أية حال إذا لم أحصل على جائزته فسأملأ بطني من طعامه

وقهقه بصوت عال

لم تكن بغداد مهيأة لذلك الجمع الحاشد من الشعراء المجانين الذين حولوا المدينة الى مخيم غجر . جاء بعضهم ماشياً على قدميه وبعضهم على جياد وآخرون مع قوافل البدو وافترشوا الطرقات وظلال البيوت والبساتين ، متناولين كل ما يقع تحت أيديهم من طعام وكأن بهم جوعاً ازلياً ، وكان بعضهم يعتقد أن سيد بغداد يمتلك المدينة وشوارعها وناسها وأنه قد أباحها لهم فكانوا يبولون في الطرقات تحت أنظار زوجاتهم ألثرثارات ، وما إنفك توافدهم الذي لا ينقطع مع ماشيتهم وقطع آثاثهم التي كانت قرقعتها تصم الآآذان وكأنهم يريدون أن يستوطنوا الى الأبد ، وكان معظمهم من المخمورين الأزليين الذين كانوا يبادلون مدائحهم بكأس من الخمر أو حتى بلا ثمن ، وحينما يسكرون يطاردون الديكة والدجاج في الشوارع وسط زعيق البغداديات سليطات اللسان

وعند حلول المساء يتجمعون حول القصر زاعقين على خدم سيد بغداد ونسائه من أجل المزيد من اللحم والرز ووسط تلك الفوضى العارمة وتصادم الخدم ببعضهم وهم ينقلون أواني الطعام ليسكتوا جوع ضيوفهم كان نادر شاه وسيد بغداد ينظران من النافذة الى تلك الحشود المرعبة من الشعراء الذين لا هم لهم سوى القصف والعربدة ، فأصيب السلطان بالذهول لأنه لم يكن يتخيل أن هذه الأرض الصغيرة تضم كل هذا العدد الهائل من الشعراء وان عليه قتلهم جميعا حتى لا يناله أحدهم بلسانه ثانية

فقال - ربما سنحتاج الى مقبرة كبيرة جدا

وخلال تلك الأيام الخالدة التي جعلت من البغداديين يغلقون أبوابهم ويمنعون نسائهم واطفالهم من الخروج الى الشارع خوفاً من أن يتحولوا الى شعراء ، وصلت الى بغداد قافلة عجيبة ، يحرسها عشرة قراصنة مسلحين بالسكاكين والبنادق وأربعة أفارقة نحيفي الأجساد يحملون محفة عاجية تجلس عليها شاعرة ما وراء البحار ، التي كانت تجيد كل لغات الأرض وتخرج الكلمات من شفتيها كزقزقة العصافير

وصلت في سفينة خرافية محصنة بإثنتي عشر مدفعا وعشرات من أشرس قراصنة بحر الشمال الذين تعاهدوا فيما بينهم على إيصالها الى آخر نقطة في الأرض مقابل أن تستلقي عارية تحت الأشرعة وتغني لهم أجمل ما كتبته من قصائد الغرام ، بينما هم يقاتلون وحوش البحر ويهزمون أمواجه بمجاذيفهم ناحية مدينة السحر الحلال ، وحينما وصلت السفينة الى اليابسة اطلقت مدافعها إحدى وعشرون كرة نار ملونة حولت سماء بغداد الى نهار ، وشيعها القراصنة بالهتاف والأنخاب وإستقبلها كل شعراء الأرض وقد أخذهم الذهول من جمالها الساحر ، فدخلت بغداد كواحد من الفاتحين العظام محملة بأقاصيص ألف ليلة وليلة وهي تهز مؤخرتها بطريقة عجيبة وتسأل تجار الخردوات عن مصباح علاء ألدين السحري ، وخلفها يسير طوابير الشعراء الذين أذابهم العشق . وكأي من نساء ما وراء البحر لم تجد ضيراً في أن تدعو أحدهم الى غرفتها لإنها لم تحتمل كل ذلك العشق والحرمان في عينيه ، وحينما سألته عن إسمه وهي تخلع ملابسها وتكشف عن تدويراتها ألباذخة . قال وهو يشهق

- إسماعيل

فلم تستطع أن تميز إسم ضحيتها جيداً إذ أنه تهاوى أمام منظر جسدها الباذخ جثة هامدة وقد أبيضت عيناه من هول لحظة الموت ، فلم تكن تدري إن كانت موت الشاعر من شدة شغفه بها أو بجسدها فكتبت الى امها رسالة مبللة بالدموع - ليرحمنا الرب .. ما كنت أدري بأن جمال جسدي سيتسبب في موت واحد من شعراء العرب - . 

وبعد أيام قليلة وجدوها ميتة وعلى فراشها خريطة مدهشة من العرق وبقايا الرجال، بعد أن ضاجعها كل شعراء ألأرض واحدا إثر ألآخر وهي تبكي على الشاعر الوحيد الذي أحبها ومات بين ذراعيها من شدة العشق فحمل جثتها الزنوج ألأربعة وأخذوها بعيداً ناحية البحر

إستيقظ نادر شاه على غير عادته قبل صلاة الفجر بساعتين ونظر من النافذة الى الحشود النائمة كالنعاج حول القصر واطلق زفرة عميقة أقلقت نوم كل من في القصر وجعلت من سيد بغداد يقفز مرعوبا من فراشه ويهرع الى غرفة السلطان راكظاً وراح يبحث عنه في الظلمة لكنه لم يجد أحدا هناك وعندما تطلع من النافذة شاهد من بعيد شبح درويش بأطمار بالية يمسك باصابعه مسبحة ضخمة ويتسلل من المدينة ناحية الصحراء ، ووجد على النافذة المواربة ورقة صغيرة كتب فيها

- قل لإولاد القحبة هولاء أن يعودوا الى ديارهم

2000 


اضافة تعليق


مسجل في دفتري
نص التعليق
زائر
نص التعليق