احصائيات

عدد إدراجاتك: 9

عدد المشاهدات: 1,622

عدد التعليقات المنشورة: 0

عدد التعليقات غير المنشورة: 0

دفتري.كوم
تصفح صور دفتري تصفح اقتباسات دفتري تسجيل / دخول






Articles

كائنات صغيرة وجميلة ولامعة

كائنات صغيرة وجميلة ولامعة


كان المجمع الذي وصلنا اليه بعد رحلة طويلة في الباص ، يقع في منطقة معزولة في اقصى الريف ، كانت هناك اشجار ضخمة ومعمرة تحيط به من كل جانب وكأنها تريد ان تحجبه عن عيون المتلصصين أو الدخلاء ، المجمع غامق اللون مبني بالطابوق الاحمر ، يتكون من خمس شقق صغيرة ، في كل شقة غرفة وصالة وحمام ، وهناك شقة كبيرة الحجم تقع في وسط المجمع ، لا يحق لنا نحن المتطوعين الدخول اليها او الاقتراب منها ...

كانت شقتي هي الخامسة وتقع في نهاية المجمع وتطل على نهر صغير مليء بالضفادع والصراصر وكائنات صغيرة تطلق اصواتا غريبة بين لحظة واخرى ثم تنام وتعاود اطلاق تلك الاصوات ( هأ هأ هأ ) ...

لم استطع رؤية تلك الكائنات ، ربما بسبب حجمها الصغير او بسبب الظلمة التي غلفت المكان واضفت عليه رهبة وقدسية غريبة ، تشبه تلك التي كنت استشعرها حينما اقترب من قبر ولي من اولياء الله او قديس ينام وعلى صدره كتاب وصليب ومسبحة سوداء احجارها ضخمة .

نمت ليلتي الاولى بعمق لم اعهده طيلة حياتي ، حلمت بوجوه مدورة عيون واسعة رموشها طويلة جداً ، وجوه تخرج من النهر وتمد رموشها وتداعب انفي ..

( هأ هأ هأ ) ....

كنت اعيش في نيويورك  وحيد على الدوام ، غريب عن تلك الارض لا اشعر بالانتماء الى اي شيء ، لا جذور لدي لذلك كنت اتنقل كالطائر بين مدن الثلج والشمس حتى وطأت قدماي تلك المدينة الباهضة الكلفة ، القاسية بتفردها ولا مبالاتها والفريدة بجمالها وتنوعها وصخبها وحيوية ناسها ، حصلت على غرفة صغيرة جداً وواطئة السقف بحيث كنت لا استطيع ان ارفع قامتي حينما امشي بداخلها ، لذلك كنت اقضي معظم وقتي جالساً على السرير اقلب قنوات التلفاز بقرف ، في الوقت الذي تشتعل به المدينة بالاضواء والمطاعم والمسارح والشهوات ( كل شيء للبيع ) ...

ماذا تريد ؟ هل تريد شراء جسر بروكلين ، مسارح برودوي ، حسناوات تايم سكوير ، أرني نقودك وخذها انها  ملكك ... ( كل شيء للبيع ) .. حتى انت قابل للبيع والشراء ، لكن من سيشتريك بفلس ...

لا احد بالطبع ...

وقفت بطابور طويل مع ثلة من العرب والاسبان والاسيويين وبعض البيض ننتظر فرصة للحصول على العمل ، خرج رجل يرتدي صديرية طبيب يرافقه مساعدان زنجيان لم ار بحياتي مثل ضخامتهما وشدة ساعديهما ..

تجول الطبيب  بين جموع العمال واختار خمسة اشخاص كنت واحدا منهم ، تطلع بي وقال ..

_ من اي بلد انت بالاصل ؟

_ عراقي .. أجبت ..

ابتسم ابتسامة لا معنى لها وحك انفه بسبابته واكمل _ تعال معي ..

دخلنا الى قاعة فارغة لاتحوي الا على كرسي حديدي ، جلس عليه الطبيب ووقف خلفه الزنجيان ...

قال الطبيب _ في جيبي خمسة شيكات قيمة كل منها عشرة الاف دولار ، عمل بسيط وممتع يتضمن السكن وثلاث وجبات ساخنة في اليوم وملابس جديدة وقنينة ويسكي ..

ابتسمت ببلاهة وقلت _ ماذا سنعمل ؟

_ لا شيء تقريباً ، انها مجرد تجربة مدعومة من جامعة هارفارد ..

تطلعت بوجوه رفاقي ، ووجدت اننا نشكل خارطة مختلفة للاجناس ، صيني ، اسباني ، روسي امريكي ابيض وعراقي .

هأ هأ هأ ..

اقتربت الرموش الطويلة من انفي .. تشوو آتشووو ..

عطست بقوة وفتحت عيني على مشهد النهر ، رأيت الضفادع وهي تختبيء بين الاعشاب بذعر ، وعلى ساق واحدة يقف ( لقلق ) رشيق ابيض اللون ، يقف كالصنم لا يتحرك منه شيء سوى ريش قوادمه ، وفي بعض الاحيان يمد منقاره الطويل ويلتقط بحذاقة ضفدع او سمكة او كائن برموش طويلة .

بحثت عن شيء اطرد به الطائر . ركضت في ارجاء الشقة ، فتحت خزانة الملابس فوجدت فؤوساً وسيوفاً وسكاكين طويلة ملفوفة بورق صقيل ونظيف ، اسلحة نظيفة لم تستخدم بعد ، بأنتظار من يفض بكارتها شهوتها للقتل للتقطيع .

جربت فأساً يلمع كالتماع ليلتي الغريبة هذه ، امسكته بكلتا يدي ورحت اطارد الطائر الذي اخذ يتقافز بمهارة من مكان الى آخر بخفة ويلتهم سكان المستنقع وحيواته ، ركضت خلفه لساعات طويلة وانا اتصبب عرقاً وارتجف ذعراً من الظلمة ورائحة المستنقع المليئة بجثث ضحاياه ، ضفادع مبقورة البطون اسماك صغيرة ترتعش ، افاع مائية ، حلزونات ، قواقع ، عرائس ، وكائنات برموش طويلة تدغدغ ساقي وتشد بنطالي وتهمهم .

_ تعال ، تعال .

صرخت كجندي يؤدي واجبه .

_ من هناك ؟

_ نحن ، نحن .

_ من انتم ؟

_ نحن ، نحن .

رحت اخبط المستنقع بالفأس ، هربت الاسماك ، هربت كائنات الظلمة ، اندست في جحورها ، لكن اللقلق بقي واقفا على ساق واحدة ، ينظر لي بعين واحدة ويلتقط بين فينة واخرى واحد من اصدقائي ، واحد برموش طويلة .

_ تعال .

في اليوم التالي استدعوني الى المكتب .

كان المسؤول قصيراً وبديناً ، يرتدي بذلة سوداء وربطة عنق صفراء ، عرفت انه عاشق ، عاشق خائب لا يستطيع البوح بحبه ، يخفي مشاعره بكرشه الكبير ، ينام على خيباته على تلعثم لسانه حينما يواجه محبوبته ذات الاثداء الكبيرة .

قال وهو يرخي ربطة عنقه .

_ يا سيد ، نحن لا نسمح للمقيمين عندنا بالخروج ليلا ، من اجل سلامتهم ، الليل خطر جدا وانت لا تعرف طبيعة المنطقة ، هناك في الخارج ، اقصد في المستنقع شيء لا ندريه لا نعرف ما هو ، لذلك لا انصح احدا من المتطوعين بالخروج ليلا .

قلت وانا اتأمل محتويات المكتب _ لكن الصوت يعذبني .

خرج الرجل من خلف مكتبه ، بدا لي اكثر بدانة وعمرا مما يدعيه ، ربما هو في بداية الخمسينيات من عمره ، تنحنح وكأنه يطرد امراض السجائر من رئتيه .

_ يا سيد . يا سيد . لا يهم ما سمعته من اصوات ، المتطوعون يسمعون اصواتا غريبة ، هذا لا يهم ، قل لي ماذا سمعت ؟

قلت _ هأ هأ ...

اطلق الرجل القصير والبدين ضحكة مجلجلة وقال .

_ انها ... انها ضحكة مدبرة المجمع اقصد  ( مس ليسا ) من المغفل الذي يخطأ قهقهتها ، من يخطأ ضحكتها التي ترن في ارجاء المجمع ، قهقهة ستسمعها كل صباح ومساء ، يا للفتوة والشباب ، بنت شيطانة ، شيطانة والله .

كان المكتب شديد الغرابة والثراء ، فيه رؤوس غزلان مصلوبة على الجدران ، عيونها من خرز اسود ، ومنافص سجائر من كعوب الوحوش وقلوب محفوظة بمحاليل تحفظها من التعفن ورؤوس ثيران بقرون طويلة تريد ان تقفز وتنطح صيادين يشهرون بوجوهها بنادق طويلة ماسوراتها تشبه البوق ، وعلى منضدته يستقر تمثال صغير لحورية بحر عظيمة الاثداء والمؤخرة تزم شفتيها الجمليتين على ( هأ هأ ) .

_ اسمع هذا الصوت ، قل لي هل سمعت مثل هذا من قبل ؟

وضع سي دي في كمبيوتره ، سمعت اصواتاً تشبه من يلوك ويمضغ كائنات صغيرة ، صوت من يبلع شيئاً

قلت _ لست متأكداً ربما .

قاطعني قبل ان اكملهذا صوت ليسا وهي تتناول فطورها ، هل سمعت بمثل هذه الموسيقى من قبل ؟

كانت ربطة عنقه فاقعة ، صفراء كالطريق الذي يؤدي الى المستنقع .

قبل ان اخرج من مكتبه اختطفت المنفضة الاثرية الموضوعة على طاولته ودسستها بجيبي ( عادة سيئة ) ، ابتسمت له وقلت _ اتمنى لك يوماً طيباً .

رد الرجل بتهذيب _ حظاً سعيداً . ثم استدرك . قبل ان تخرج أعد المنفضة الى مكانها ؟

عندما حل المساء ، كنت اقف على حافة المستنقع انتظر وصول اللقلق ( لم يصل بعد ) المستنقع هاديء وصاف كالسماء ككل شيء يحيط بي . كنت اريد ان استمتع بتلك اللحظات النادرة ، السلام الذي افتقدته منذ ان خرجت من منزلي قبل عشرين عاماً

سمعت قهقهة طروب ، قهقهة داعرة مستفزة مرحة شهوانية .

لابد انها مس ليسا ، سيدة في نهاية الثلاثينيات من عمرها ، طويلة وممتلئة الصدر والمؤخرة وتضع على كتفها بندقية صيد وترتدي جزمة عالية الساق .

مرت من امامي وكأنها لم تلحظ وجودي وخاضت في المستنقع

قلت _ مساء الخير .

رفعت كفها بتحية غير مبالية ، ثم اختفت بين الاحراش .

بعد لحظات جاء المدير البدين وقال وهو يلهث _ هل رأيت ليسا ؟

قلت _ نعم ، رأيتها تختفي خلف تلك الأجمة .

رفع بنطاله الى ركبتيه وخاض في المستنقع .

قلت _ هل تحتاج الى مساعدة ؟

أجاب بصرامة _ كلا . لا يحق للمتطوعين الدخول للمستنقع .

اختفى هو الآخر خلف الاشجار الكثيفة ، بالتأكيد سوف ينيك ليسا ويشخر بين نهديها .

كان بودي ان الحق بهما واتلصص عليهما وهما يركبان بعضهما ويسوطان لحمهما وشحمهما ، كان بودي ان اسمع لهاث المدير وهو يعتلي مؤخرة ليسا العظيمة .

في تلك الاثناء سمعت نفس الصوت الذي سمعته ليلة امس .

_ تعال تعال .

ظهر كائن صغير الحجم له وجه زهرة عباد الشمس وعينان بشريتان وفم مدور صغير .

_ تعال .

ركضت الى الشقة وغيرت ملابسي واحتذيت جزمة طويلة ووضعت بحزامي كل الاسلحة التي صادفت طريقي ، بلطة لتقطيع الاشجار وفالة لصيد السمك ومدية لتقطيع البصل ثم تناولت زجاجة الويسكي الموضوعة على الطاولة .

كان الكائن ينظر لي وعلى شفتيه ابتسامة حلوة .

تمعنت به للحظات ، كان جميلا وغريباً بشكل لا يصدق ، اوراق عباد الشمس الصفراء تحيط بوجهه المدور وتنزل على عنقه الطويل وتلون ذراعيه وساقيه .

ابتسمت له ، فقال _ الحقني .

قفز برشاقة على سطح المستنقع ، كرعت الويسكي من فم القنينة وركضت خلفه واسلحتي تقعقع .

_ تعال تعال هأ هأ هأ .

في اليوم التالي اوقفني المدير وسط المجمع وقدامه مباشرة جثة اللقلق المنتوفة الريش والمبقورة البطن . كانت الانظار مسلطة علي  من كل الجهات ، انظار المتطوعين والمنظفين وانظار مس ليسا وكرش المدير وهو يفرقع .

_ هذا لايطاق ايها السيد . التفت ناحية الجمع واكمل وهو يرتجف من الغضب ، هذا الرجل قتل اللقلق ، قتل التجربة التي كلفت الجامعة ثلاثة ملايين دولار ، قتل أندر طائر في الكون الوحيد المتبقي من نوعه ، لا ادري ماذا سأقول لرئيس للجامعة للناس ؟... انت مطرود من العمل ، حزم اغراضك الان وسيأخذك الباص الى المدينة الان .

كنت اشعر بالتعب من مغامرة ليلة أمس ، هل استطيع تسميتها مغامرة ؟

نعم .

ركضت خلف الكائن ، تجاوزنا حزمات الادغال والاجمات البرية واخذ المستنقع يكبر حتى اصبح بحجم الهور واسع البطن ، لمحت ليسا والمدير جالسان حول موقد نار وقربهما العديد من الكائنات الصغيرة والخائفة ، كائنات حمراء نارية واخرى زرقاء سماوية وطينية وبخارية وحديدية ولامعة وكابية ، مخلوقات لانراها في حديقة الحيوانات او في الطبيعة ، انها كائنات مختبرية ، صنعتها مخيلة شريرة واطلقتها في هذا المستنقع .

لم يرني المدير ولا ليسا او هكذا حدست ، لاحقت الكائن الذي اوصلني الى شجرة ضخمة جداً ، ضخمة ومتشابكة الاغصان كأن عمرها الاف السنين .

قال _ هأ هأ . اصعد اصعد .

قلت _ ماذا هناك ؟

ابتسم الكائن ابتسامته الحلوة تلك ، لم استطع مقاومة ابتسامته فتناولت جرعة كبيرة واخيرة من  قنينة الويسكي وامتشقت البلطة وتوكلت على الله وصعدت ، صعدت وصعدت وصعدت حتى شعرت بتعب شديد وخدر بكل اعضائي فأردت ان استريح قليلا ، لكن الكائن نغز كتفي واشار ناحية كهف محفور بالشجرة  ويخرج منه ضوء خافت .

_ ما هذا يا الله ؟ 

تعوذت بالله من الشيطان واقتربت بحذر ناحية الكهف ثم تسللت الى الداخل ناحية الضوء ، فرأيت اللقلق وقد تضخم جسده عشرات المرات وهو يدور كالسلطان الجائر حول قفص يضم المئات من تلك الكائنات الصغيرة واللطيفة ، وبين لحظة واخرى يمد منقاره الطويل ويلتقط واحداً منها .

همس رفيقي الذي يشبه زهرة عباد الشمس .

_ انقذنا ، انقذ اخوتي الصغار ارجوك .

ابتسم لي ابتسامته الساحرة تلك ومد منقاره الصغير ونقر شفتي وكأنه يقبلني .

يا لها من معركة رهيبة ، تصارعت مع اللقلق طوال الليل حتى استطعت بعد جهد عظيم ان اقطع منقاره ولسانه وجناحيه وساقيه وانتف ريشه والقي بمصارينه في الفضاء وافتح بطنه واخرج منها كل تلك الكائنات اللطيفة واطلقها حرة في الريح .

كائنات جميلة ، واحدها يشع كالنور وآخر بلون الماء او الارض او السماء او النار او كبقية حملتها من هناك ، من منزلي ، من غرفتي التي تقع فوق السطح قرب برج الحمام







  




  


اضافة تعليق


مسجل في دفتري
نص التعليق
زائر
نص التعليق