الذكرى البشعة للفنان والواشم ( بازي )
الذكرى البشعة للفنان والواشم ( بازي )
هناك ناس غامضون ، كأنهم رأوا كل شيء وخبروه ، الحياة والموت ، الجنة والجحيم ، الحب والكره ، ولهم القدرة على البقاء الى الأبد بطريقة غامضة رغم بشاعتها ولا معقوليتها .
واحد من أولئك الناس هو الفنان ( بازي ) ، ربما سمع بعضكم به من خلال ما وصلنا من كتب قديمة ، ككتاب ( رسالة الغفران ) ، اذ يرد اسمه في بيت شعر عابر عن ( الحطيئة ) ، فكما يبدو أن أبا العلاء حين تدوينه للرحلة إحتاج الي بعض الشخوص التي تكمل المشهد ، فوضع شخصية مصور وفنان مولع بالتجسيد سماه ( بازي ) .. بالطبع وضعه في الجحيم ، كنتيجة حتمية لعمله في تزيين أجساد الناس بالنقوش ، وذلك محرم بالإسلام .
من جاء بعد أبا العلاء ، سواء كانوا باحثين أو شارحين لرسالته ، أغفلوا الحديث عن بازي ، والطريف أن أشهر محققة للرسالة ( بنت الشاطيء ) اعتقدت أنه يعني طائر ( الباز ) وليس ذلك الفنان والواشم الغريب الذي لم يذكره أحد بل تجنبه الجميع الا ما ندر .
فهو للأسف وشم لوحاته على أجساد ناس فانين . عمله يموت بموتهم .
لكن المثير بالأمر ، أن هناك لوحتان باقيتان من أعماله .
بالقرب من نهر ( جفرسون ) في ولاية نيويورك يطل بيت كبير بأبهائه الواسعة وقاعاته وغرفه ، عرفت فيما بعد أنه منزل ( جورج إيستمان ) مخترع آلة التصوير القديمة كوداك .
وعرفت أيضاً أنه متحف مفتوح ، يحق لأي شخص الدخول اليه والتجول به ، لا أذكر أني دفعت تذكرة الدخول ، لم يسألني أحد عن دفع أي شيء ، إختلطت مع جموع الداخلين .
البيت رغم حجمه الواسع وعديد الموظفين الذين يديرونه ، الا أنه لم يجذبني كثيراً ، فهو لا يشبه قصورنا ، أعني القصور الشرقية ، انه ببساطة باهت وبغير روح .
ما يميز القصور الشرقية هو روحها ، فقد تسنى لي يوماً رؤية قصر الشيخ خزعل في المحمرة ، أخذتني الدهشة من حيطانه المغلفة بالمرمر الأسود وسقوفه المكونة من جذوع النخيل والبواري ، عددت أربعون غرفة على عدد زوجاته ، ومطبخ كبير جداً وجامع ، كنت أشعر بخطوات الحريم وقهقهات الأولاد وسطوة الشيخ خزعل .
على جدران الممر الطويل كانت هناك قطعة جلد منقوش عليها نقش غاية بالجمال ، نوع من الوشم يصور كائنات غاية بالقدم ووحوش غريبة تشبه أعمال الفنان الفطري ( منعم فرات ) .
وهناك توقيع يتصل بالوشم ميزته بصعوبة ( بازي ) .
بالطبع لم يكن هناك من اسأله عن مغزى وجود تلك القطعة الجلدية ومن أين أتت وما نوع الجلد الذي نقشت عليه ، فكلنا كنا جنوداً في ذلك الحين ، والجنود عادة لا يتساءلون بل يحطمون الأشياء ، لم يمض على وجودنا سوى أيام قليلة بالقرب من القصر ، حتى تحولت الشبابيك والأبواب وبقايا الآثاث الى حطب وإحترقت بعض الغرف ، لكن الغريب أن أحداً لم يمس قطعة الجلد تلك .
الجنود كانوا يخشونها وبعضهم أعلن أنها ربما تكون جلد بشر فهي لا تشبه جلود الأبقار المتينة ولا حتى جلود الفيلة .
حين الدخول الى قصر ( إيستمان ) تواجهك قاعة كبيرة فيها منضدة هائلة الحجم ، أرجلها مصنوعة من أقدام الفيلة ، وعلى تلك المنضدة تتوزع منفضات سجائر مصنوعة من كعوب حيوان الخرتيت .
ذكرت لنا مدبرة المنزل أن المرحوم كان مولعاً بالتدخين والصيد كولعه بأمه وأشارت الى لوحة ضخمة لسيدة أمريكية تلبس السواد ، تشبه فرجينيا وولف وفي عينيها حزن لا يحتمل .
ربما حزنها الذي لا يطاق هو من دفعها للإنتحار .
أكملت - أنه لشدة حبه لها أراد تخليدها بهذه اللوحة .
كانت اللوحة الضخمة في أعلى السلم الذي يقود الي العّلية حيث تتواجد غرف النوم .
صعدت لأتطلع بالغرف ، فوجدت على واحد من الجدران قطعة جلد عليها نقوش تصور وحوشاً قديمة وزخارف .. هاجس غريب ذكرني بجلد قصر الشيخ خزعل ، رحت أبحث عن توقيع متروك فوجدت اسم ( بازي ) هناك فإقشعر جلدي .
اضافة تعليق