احصائيات

عدد إدراجاتك: 9

عدد المشاهدات: 1,622

عدد التعليقات المنشورة: 0

عدد التعليقات غير المنشورة: 0

دفتري.كوم
تصفح صور دفتري تصفح اقتباسات دفتري تسجيل / دخول






Articles

هدهد قزموز



كثيرة هي الأشياء التي لا أدريها بحياتي.
مرة رأيت جارنا يضاجع زوجته تحت اللحاف فبكيت ، ظننت انه يعذبها وها هي تلفظ انفاسها الأخيرة ، لكنني في الصباح رأيتها تشعل النار في التنور وتنظر بسعادة للهب المتصاعد.
سألت أمي - ماذا يفعل الناس تحت ( اللحّاف ) ؟
أظنها حزرت سؤالي البريء .
فقالت – يسوون أطفال !
الأطفال يأتون من تحت ( اللحّاف ) إذن !
أخوتي الكبار جاءوا من تحت اللحاف وصديقي ( معين ) جاء من تحت اللحاف ايضاً ، لكنه لم يكن يدري مثلي ، يظن اننا نأتي ( من الله ) رزق يسقط من السماء في أحضان أبوينا .
وحينما همست بأذنه معرفتي الجديدة ، فتح عينيه على سعتهما .
وقال – دروح يمعود .
حينما كبرنا وجدته في ( شبك 12 ) يجلس على ( تنكة ) أمام خيمته .. نظر لي بفتور كعادته دائماً وقال .
-أكيد ما حصلت خيمة ؟
كنت حتى تلك اللحظة أحمل ( السطل ) وعمود الخيمة الذي وجدت بهما فوائد تفوق ما احصاه ( الجاحظ ) أثناء حديثه الطويل عن فوائد العصا ، ففي مكان خطر جداً ك ( الشبك 12 ) تحتاج الى أكثر من سلاح لتدافع به عن نفسك ، خطورة المكان تنبع من العدد الكبير من البشر الذين حشروا بمساحة صغيرة جداً ، خليط غريب وعجيب من الناس ، جميعهم يلبسون ( بيجامات ) مخططة بلون واحد أعطاها لنا ( الأمريكان )حينما كنا في معسكراتهم ، يقطعون الشبك من بدايته الى نهايته ويتهامسون فيما بينهم أو يتعاركون .
قلت – لا .. ما حصلت .
جلست الى جانبه على ( سطلي ).
كان وجهانا متربين ورموشنا متربة تتحرك بسرعة وعيوننا تنظر الى البعيد حيث أسراب جمال تلقفها السراب فبدت وكأنها منائر وقباب ذهبية لقبر إمام مغدور ، ثم لاشيء سوى عساكر سعوديين ( يستاكون ) طيلة الوقت وينقلون لنا الطعام والماء بشاحنات عملاقة وكأننا خراف تسمن لتذبح بعد ذاك ، كنا حقاً أشبه بالخراف التي زادت أوزانها بسرعة نتيجة العلف والخمول والنوم الطويل فأخذت تناطح بعضها البعض الاخر بشراسة منقطعة النظير ، أو تناطح الحراس بالكلمات والحجارة ثم بالأيدي حتى وصلت الى البنادق والدبابات .
ولسوء حظي الدائم وجدت يوماً دبابة بقضها وقضيضها تربض بالقرب من خيمتي ولا يفصلها عني سوى الشبك ، أفتح رموشي المتربة على دبابة واغلقهما على دبابة لشهور طويلة ، وكنت افكر ماذا لو ان السعودي أضاع ( مسواكه ) مثلا ولم يجده وهو الذي لا يستغني عنه مطلقاً فإنتابه الغضب وفتح النار ، أو أصابه الضجر من جلوسه الطويل تحت الشمس التي لا ترحم ووجه مدفع دبابته ناحيتنا ونسف المعسكر بأكمله .
لا شيء يمنعه بالطبع ، فنحن شيعة وكفرة بالضرورة وقتلنا أقصر طريق يوصله للجنة ، كما اننا لن نهتدي ولن نصبح مسلمين الى الأبد رغم انهم حاولوا معنا كثيراً وطويلاً ، نشروا سماعات كبيرة حول المعسكر تذيع الصلوات الخمسة وبعدها محاضرات مضحكة ومملة عن الوهابية وفضائل الصحابة وترتيلات مخيفة بصوت ( علي العجمي ) تبشر بالويل والثبور لكل من لا يهتدي ، وتوبة نصوح لمخرج سينمائي ( مشهور جداً ) لم أسمع باسمه على الأطلاق رغم أني أعرف حتى ممثلين وممثلات ساحل العاج .
ولم يكتفوا بذلك فقد كانوا يجمعوننا بالعصي في أوقات الظهيرة التي تجعل الحمار يبول دماً ، ويدخل عليناعسكري ملتحي يشبه ( كاسترو ) ليلقي علينا محاضرة طويلة عن 
( تلبيس إبليس ) وعمن تلبسته الشياطين ، وقبل ان يغادر يوزع علينا كتباً ظريفة مثل 
( السيف البتار فيمن يقول أن القطر من البخار ) وهو واحد من الكتب التي شغفت بها طويلا ( إذ لم يكن هناك غيره ) فهو مسلي فعلا وفيه حكايات لا تجدها حتى عند أكثر الشعوب تخلفاً وظلامية ، لكن أكثر ماكان يزعجني فيه هو غلافه الذي يصور رأساً مقطوعة وسيفاً يقطر دماً . في
أحد الأيام شممت رائحة شاي وأوراق تحترق في الخيمة ، ووجدت ( معين ) يخدر شاياً في (قوطية ) ويلقم النار أوراق كتابي الأثير ، فلم أدري ما أفعل فقد كانت رائحة الشاي أقوى من رغبتي في التحرك لأنقاذ ما تبقى من الكتاب
وحتماً سيأتي ( كاسترو ) هذه الظهيرة ويبدأ بالزعيق .
-أخرج .. يا الچلب ؟ .
فيجاوبه الجميع بصوت واحد .
- أهووه هم إجه كاسترو .
حينها سأسأله عن كتاب آخر .
كان معظم من عرفتهم يغنون ، وتلك سمة أهل الجنوب ، فهم جميعاً يغنون عندما يضيق الصدر وتشتدالمصاعب ، كان محمد يغني ( يبنادم ) في العصاري و ( النزيل ) يغني ( الكنطرة بعيده ) يرسمها بأصابعه قبل حنجرته فتبدو وكأنها حكاية سينمائية ، و ( جاسم الشيش ) يبكي الصخر حينما يجلس على دكة المياه في الليالي المقمرة ويتذكر إبنته ( وسن ) فيطلق ( أويلاخ .... ) عالية جداً وصافية جداً كأنها قادمة من اعماق الهور أو من بارات الناصرية ، فيخرس المكان وتتوقف الحركة في المعسكر كله .
يقطع ( سعد الأسود ) ثرثرته المعتادة عن الشيوعية وفهد وسلام عادل ويفرق أنصاره الشيوعيين الصغار ،ويضع ( ابو زمان ) يديه في جيوب بنطاله ويتذكر قريته الجميلة طويريج .
يكف الجميع عن الهذر والعراك والمؤامرات ينصتون للصوت العذب ، وفي الوقت نفسه ينصت الحراس ويكفون عن مضغ ( المساويك ) فتدمع عيونهم .
ربما كان صوت ( الشيش ) واحداً من الأسباب التي منعتهم من أطلاق النار علينا ونسف المكان بأكمله .وإلا ما الذي يمنعهم ؟ فنحن في مكان لا تصله حتى عفاريت ( كاسترو ) التي تسوط البرق والغيوم ، لاتصله البعران ولا الطيور .
المرة الوحيدة التي رأيت بها طائراً قطع الصحراء ليطل على محنتنا ، وجدته ميتاُ !
قتله ( علي قزموز ) حينما رآه يحط على سور الشبك ، رماه بحصاة وجلبه اليّ لأساعده في تحنيطه وحينما سألته .
- لماذا قتلته ؟!
أجاب ببلاهة – عظم الهدهد مفيد .
حينها عرفت كم نحن بعيدون عن العالم ، بعيدون عن البشر في مكان لا يهتدي اليه سوى ( الهدهد ) جاسوس سليمان ، لكن قزموز لم يتركه يوصل رسالته التي من اجلها قطع الربع الخالي وعانى العطش والوحدة لينُم عن مكاننا الى العالمين ، عاجله بحصاة لا تخطيء هدفها فمات معه الخبر .
( قزموز ) يظن ان عظم الهدهد فيه قوى سحرية تجعل البنات تركض وراءه حينما يحتك بهن بالزحام ، ولما طال به المقام في الشبك ولم يجد من يحتك بها ، جلبه اليّ لأساعده في تحنيطه ، ولا ادري لماذا أختارني أنا بالذات لتحنيط الهدهد المسكين ؟
وضع أمامي كتلة ريش وجلد متيبس يظهر منها منقار طويل وقال .
- هذا هدهد .
قلت – انت متأكد هذا هدهد ؟
قلبه بأصابعه كأنه يشك بأمره وقال .
- أكيد هدهد .. ماكو غيره يوصل .
ثم أخذ يشرح لي عن عظم الهدهد الناجح الذي إذا القيته في الماء يسير عكس التيار ويجعل أجساد البنات تلتهب من أجله فيلاحقنه الى غرفته ، يبدأ النوم مع بنات الجيران كلهن ( حتى مع أخوات أصدقائه ) ثم مع كل بنات الشطرة والناصرية ويجوز بغداد إذا نجحت الخطة وصعدت بيده !
لم يكن هناك الكثير أمامي لتحنيطه ، فكتلة الريش والجلد اليابس تهرأت تحت ضغط أصابعي غير المتمرسة بالتحنيط ، وقزموز ينظر لي بريبة وقد أخذه القلق على هدهده وبين فترة وأخرى يقول
- يمعود .. لا تمرد العظم !

اضافة تعليق


مسجل في دفتري
نص التعليق
زائر
نص التعليق